فصل: تفسير الآية رقم (136):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (136):

{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
{قُولُواْ} خطابٌ للمؤمنين بعد خِطابه عليه السلام بردِّ مقالتِهم الشنعاءِ على الإجمال وإرشادٌ لهم إلى طريق التوحيد والإيمان على ضربٍ من التفصيل أي قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقاً وإرشاداً ضمنياً لهم إليه {آمنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} يعني القرآن قُدِّم على سائر الكتب الإلهية مع تأخرُّه عنها نزولاً لاختصاصِه بنا وكونِه سبباً للإيمان بها {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط} الصُحُف وإن كانت نازلةً إلى إبراهيم عليه السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبَّدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامِها جُعلت منزلة إليهم كما جعل القرآنُ منزلاً إلينا والأسباطُ جمعُ سِبْط وهو الحافِدُ والمرادُ بهم حَفَدةُ يعقوبَ عليه السلام أو أبناؤه الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفَدةُ إبراهيمَ وإسحاقَ {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرةِ بأيديهما حسبما فُصّل في التنزيل الجليل، وإيرادُ الإيتاء لما أُشير إليه من التعميم، وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى {وَمَا أُوتِيَ النبيون} أي جملةُ المذكورين وغيرُهم {مّن رَّبّهِمُ} من الآيات البيناتِ والمعجزاتِ الباهراتِ {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتُبر عدمُ التفريق بينهم مع أن الكلامَ فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريقِ بين ما أوُتوه، وهمزةُ {أحداً} إما أصليةٌ فهو اسمٌ موضوع لمن يصلُح أن يخاطَب يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ {بين} عليه كما في مثل المالِ بين الناس ومنه ما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سُودِ الرُّؤوسِ غيرِكم» حيثُ وصف بالجمع، وإما مبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد وعمومُه لوقوعه في حيز النفي وصحةِ دخول {بين} عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحد منهم وبين غيره كما في قول النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما ** أبو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ

أي بين الخير وبيني وفيه من الدلالة صريحاً عليه تحقيقُ عدمِ التفريقِ بين كلِّ فردٍ منهم وبين من عداه كائناً من كان ما ليس في أن يقال لا نفرِّق بينهم، والجملة حالٌ من الضمير في آمنا وقوله عز وجل: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مخلصون له ومُذعنون حالٌ أخرى منه أو عطفٌ على آمنا.

.تفسير الآية رقم (137):

{فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
{فَإِنْ ءامَنُواْ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن ما تقدم من إيمانِ المخاطَبين على الوجه المحرَّرِ مَظِنَّةٌ لإيمان أهلِ الكتابين لما أنه مشتملٌ على ما هو مقبولٌ عندهم {بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ} أي بما آمنتم به على الوجهِ الذي فُصل على أن المِثْلَ مُقحَمٌ كما في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ} أي عليه، ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود بما آمنتم به وقراءة أُبيّ بالذي آمنتم به ويجوزُ أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمَنَ به محذوفٌ لظهوره بمروره آنفاً، أو على أن الفعلَ مُجرىً مجرى اللازمِ أي فإن آمنوا بما مر مفصلاً أو فإنْ فعلوا الإيمانَ بشهادةٍ مثلِ شهادتكم، وأن تكون الأولى زائدةً والثانية صلةً لآمنتم و{ما} مصدرية أي فإن آمنوا إيماناً مثلَ إيمانِكم بما ذُكر مفصَّلاً وأن تكون للملابسة أي فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيماناً ملتبساً به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام فإن ما وُجد فيهم وصدَر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثلُ ما للمؤمنين لا عينُه بخلاف المؤمَنِ به فإنه لا يُتصوَّرُ فيه التعدّد {فَقَدِ اهتدوا} إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحادُ والاتفاق، وأما ما قيل من أن المعنى فإن تحرَّوُا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثلِ طريقِكم فقد اهتدوا فإن وَحدَة المقصِد لا تأبى تعددَ الطريق الحقِّ، وإرشادُهم إليه بعينه لا يلائم تجويزَ أن يكون له طريقٌ آخرُ وراءه {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلّوا بشيء من ذلك كأن آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض كما هو دينُهم ودَيْدَنُهم {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} المُشاقّة والشِقاقُ من الشِق كالمخالفة والخِلاف من الخُلف والمعاداة والعِداء من العَداوة أي التجانب، فإن أحدَ المخالِفين يُعرِض عن الآخر صورةً أو معنى ويُولِيه خَلفَه ويأخُذُ في شِقٍ غيرِ شِقّه وعَدْوةٍ غيرِ عَدْوَتِه، والتنوينُ للتفخيم أي هم مستوون في خلاف عظيمٍ بعيدٍ من الحق وهذا لدفع ما يُتوهم من احتمال الوِفاق بسبب إيمانِهم ببعضِ ما آمن به المؤمنونَ، والجملةُ إما جوابُ الشرط كما هي على أن المرادَ مُشاقّتُهم الحادثةُ بعد تولِّيهم عن الإيمان كجواب الشرطية الأولى، وإنما أُوثرت الجملةُ الاسميةُ للد2لالة على ثباتِهم واستقرارِهم في ذلك، وإما بتأويل فاعلَموا إنما هم في شقاق. هذا هو الذي يستدعيه فخامةُشأنِ التنزيلِ الجليل، وقد قيل: قولُه تعالى: {فَإِنْ ءامَنُواْ} إلخ من باب التعجيز والتبكيتِ على منهاج قولِه تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ}، والمعنى فإن حصّلوا ديناً آخرَ مثل دينِكم مماثلاً له في الصِحة والسَّداد فقد اهتَدوا وإذ لا إمكانَ له فلا إمكانَ لاهتدائهم، ولا ريب في أنه مما لا يليق بحمل النظمِ الكريم عليه، ولمّا دل تنكيرُ الشِقاق على امتناعِ الوفاقِ وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال والقتالِ لا محالة عقَّب ذلك بتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتفريحِ المؤمنين بوعد النصر، والغَلَبة ضمانُ التأييد والإعزاز، وعبّر بالسين الدالةِ على تحقق الوقوعِ اْلبتَةَ فقيل: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} أي سيكفيك شِقاقَهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال، وقد أنجز عز وعلا وعدَه الكريمِ بقتل بني النضير، وتلوينُ الخطاب بتجريده للنبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك كفايةٌ منه سبحانه للكلِّ لما أنه الأصلُ والعُمدة في ذلك وللإيذانِ بأن القيامَ بأمورِ الحروب وتحمُّلَ المُؤَن والمشاقِّ ومقاساةَ الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصر في حقه عليه السلام أتم وأكملُ {وَهُوَ السميع العليم} تذييلٌ لما سبق من الوعد وتأكيدٌ له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعوه به ويعلم ما في نِيَّتك من إظهار الدينِ فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أي يسمع ما ينطِقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابقِ فإن وعيدَ الكفرة وعد المؤمنين.

.تفسير الآيات (138- 139):

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
{صِبْغَةَ الله} الصِّبغة من الصِّبْغ كالجلسة من الجلوس وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوْ ضارِ الكفر وحليةً تُزَيِّنُهم بآثاره الجميلة ومتداخِلاً في قلوبهم كما أن شأن الصَّبْغ بالنسبة إلى الثوب كذلك وقيل للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمِسون أولادَهم في ماء أصفرَ يسمونه المعمودية ويزعُمون أنه تطهيرٌ لهم وبه يحِق نصرانيتُهم وإضافتها إلى الله عز وجل مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريفِ والإيذانِ بأنها عطية منه سبحانه لا يستقِلُّ العبدُ بتحصيلها فهي إذن مصدرٌ مؤكدٌ لقوله تعالى: {مِنَ} داخل معه في حيز قولوا منتصبٌ عنه انتصابَ وعد الله عما تقدمه لكونه بمثابة فعلِه كأنه قيل: صَبَغنا الله صِبغةً وقيل: هي منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا صبغةَ الله وإنما وُسّط بينهما الشرطيتان وما بعدهما اعتناءً ببيان أنه الإيمانُ الحقُّ وبه الاهتداءُ ومسارعةً إلى تسليته عليه الصلاة والسلام {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله} مبتدأ وخبر، الاستفهامُ للإنكار والنفي وقولُه تعالى: {صِبْغَةَ} نصبٌ على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن صبغتُه أحسنُ من صبغته تعالى فالتفضيلُ جارٍ بين الصِّبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغةَ أحسنُ من صبغته تعالى على معنى أنها أحسنُ من كل صبغة على ما أشير إليه في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ} إلخ وحيث كان مدارُ التفضيل على تعميم الحسن الحقيقي والفَرَضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون في صبغة غيرِه تعالى حُسْنٌ في الجملة، والجملةُ اعتراضية مقرِّرة لما في صبغة الله من معنى التبجّح والابتهاج {وَنَحْنُ لَهُ} أي لله الذي أولانا تلك النعمةَ الجليلةَ {عابدون} شكراً لها ولسائر نِعمِه، وتقديمُ الظرف للاهتمام ورعايةِ الفواصل، وهو عطفٌ على آمنا داخلٌ معه تحت الأمرِ وإيثارُ الاسميةِ للإشعار بدوام العبادةِ أو على فعل الإغراء بتقدير القول أي الزمَوا صِبغة الله وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} حينئذ يجري مَجرى التعليل للإغراء {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} تجريدُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم عقِبَ الكلام الداخلِ تحت الأمر الواردِ بالخطاب العام لما أن المأمورَ به من الوظائف الخاصةِ به عليه الصلاة والسلام وقرئ بإدغام النونِ والهمزةُ للإنكار والتوبيخ أي أتجادلوننا {فِى الله} أي في دينه وتدّعون أن دينَه الحقَّ هو اليهوديةُ والنصرانية وتبنون دخولَ الجنة والاهتداءَ عليهما وتقولون تارة لن يدخلَ الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتارة كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} جملة حالية وكذلك ما عليها أي أتجادلوننا والحالُ أنه لا وجه للمجادلة أصلاً لأنه تعالى ربُنا أي مالكُ أمرنا وأمرِكم {وَلَنَا أعمالنا} الحسنةُ الموافقةُ لأمره {وَلَكُمْ أعمالكم} السيئةُ المخالفة لحُكمه {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهَه فأنّى لكم المُحاجّةُ وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمعِ في دخول الجنة بسببه ودعوةِ الناس إليه.

.تفسير الآية رقم (140):

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
وكلمة {أم} في قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} إما معادلة للهمزة في قوله تعالى: {أَتُحَاجُّونَنَا} داخلةٌ في حيز الأمر على معنى أيَّ الأمرين تأتون إقامةَ الحجة وتنويرَ البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبّثَ بذيل التقليد والافتراءِ على الأنبياء وتقولون: {إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى} فنحن بهم مقتدون والمرادُ إنكارُ كِلا الأمرين والتوبيخُ عليهما، وإما منقطعةٌ مقدرةٌ ببل والهمزة دالةٌ على الإضراب والانتقالِ من التوبيخِ على المُحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وقرئ {أم يقولون} على صيغة الغَيْبة فهي منقطعةٌ لا غير، غيرُ داخلةٍ تحت الأمر واردةٌ من جهته تعالى توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم لا من جهته عليه السلام على نهج الالتفات كما قيل.
هذا، وأما ما قيل من أن المعنى أتحاجوننا في شأن الله واصطفائِه نبياً من العرب دونكم؟ لما رُوي أن أهلَ الكتاب قالوا الأنبياءُ كلُهم منا فلو كنت نبياً لكنت منا فنزلت. ومعنى قوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} أنه لا اختصاصَ له تعالى بقوم دون قومٍ يصيب برحمته من يشاء من عباده فلا يبعدُ أن يكرِمنا كما أكرمَكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاماً وتبكيتاً، فإن كرامة النبوة إما تفضلٌ من الله تعالى على من يشاء فالكل فيه سواء، وإما إفاضةُ حقَ على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتخلِّي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضاً أعمالٌ ونحن له مخلصون أي لا أنتم، فمَعَ عدم ملاءمتِه لسياق النظم الكريم ولاسيما على تقدير كونِ كلمةِ أم معادلةً للهمزة غيرُ صحيح في نفسه لما أن المرادَ بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة، ولا ريب في أن أمرَ الصلاحِ والسوءِ يدورُ على موافقة الدين المبنيِّ على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبارُ تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادِها المتقدم على البعثة بمراتِبَ {قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} إعادةُ الأمر ليس لمجرد تأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلاً بما قبله بل بينهما كلامٌ للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبِعٌ لما أنه الحقُّ قد أُضرب عنه الذكرُ صفحاً لظهوره وهو تصريحُهم بما وُبِّخوا عليه من الافتراء على الأنبياء عليهم السلام كما في قوله عز وجل قال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} وقولِه عز قائلاً: {قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ على} فإن تكريرَ قال في الموضعين وتوسيطَه بين قولي قائلٍ واحد للإيذان بأن بينهما كلاماً لصاحبه متعلقاً بالأول والثاني بالتبعية والاستتباع كما حُرر في محله أي كذِبُهم في ذلك ونُكثُهم قائلاً: إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد نَفَى عن إبراهيم عليه السلام كلا الأمرين حيث قال: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا} واحتُج عليه بقوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} وهؤلاء المعطوفون عليه السلام أتباعُه في الدين وِفاقاً فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون {وَمَنْ أَظْلَمُ} إنكارٌ لأن يكون أحدٌ أظلم {مِمَّنْ كَتَمَ شهادة} ثابتة {عِندَهُ} كائنة {مِنَ الله} وهي شهادتُه تعالى له عليه السلام بالحنيفية والبراءةِ من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفاً، فعنده صفةٌ لشهادة وكذا {من الله} جيء بهما لتعليل الإنكار وتأكيدِه فإن ثبوتَ الشهادةِ عنده وكونَها من جانب الله عز وجل من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشدِّ الزواجر عن كِتمانها، وتقديمُ الأول مع أنه متأخرٌ في الوجود لمراعاة طريقةِ الترقي من الأدنى إلى الأعلى، والمعنى أنه لا أحدَ أظلمُ من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادةَ وأثبتوا نقيضَها بما ذُكر من الافتراء، وتعليقُ الأظلمية بمُطلق الكِتمان للإيماء إلى أن مرتبةَ مَنْ يردُّها ويشهد بخلافها في الظلم خارجةٌ عن دائرة البيان أو لا أحدَ أظلمُ منا لو كتمناها، فالمرادُ بكتمها عدمُ إقامتها في مقامِ المُحاجة، وفيه تعريضٌ بغاية أظلمية أهلِ الكتابِ على نحو ما أشير إليه، وفي إطلاق الشهادة مع أن المرادَ بها ما ذكر من الشهادة المعينةِ تعريضٌ بكتمانها شهادةَ الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من فنون السيئاتِ فيدخُل فيها كتمانُهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياء عليهم السلام دُخولاً أولياً أي هو محيطٌ بجميع ما تأتون وما تذرون فيعاقبُكم بذلك أشدَّ عقاب، وقرئ {عما يعملون} على صيغة الغَيْبة فالضميرُ إما لمن كَتَم باعتبار المعنى، وإما لأهلِ الكتاب، وقولُه تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} إلى آخر الآية، مسوقٌ من جهته تعالى لوصفهم بغاية الظلمِ وتهديدِهم بالوعيد.

.تفسير الآيات (141- 142):

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تكريرٌ للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخارِ بالآباء والاتكالِ على أعمالهم وقيل: الخطابُ السابق لهم وهذا لنا تحذيرٌ عن الاقتداء بهم وقيل: المرادُ بالأُمة الأولى الأنبياءُ عليهم السلام وبالثانيةِ أسلافُ اليهود.
{سَيَقُولُ السفهاء} أي الذين خفّت أحلامُهم واستمهنوها بالتقليد والإعراضِ عن التدبر والنظرِ من قولهم ثوبٌ سفيهٌ إذا كان خفيفَ النسج وقيل: السفيهُ البهّاتُ الكذابُ المتعمدُ خلافَ ما يَعلم، وقيل: الظلومُ الجهولُ والمراد بالسفهاء هم اليهودُ على ما رُوي عن ابن عباس ومجاهدٍ رضي الله عنهم قالوه إنكاراً للنسخ وكراهةً للتحويل حيث كانوا يأنَسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم في القِبلة الأولى وبُطلان الثانية إذ ليس كلُّهم من اليهود وقيل: هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكةَ بل طعناً في الدين فإنهم كانوا يقولون رغِبَ عن قِبلة آبائه ثم رجَع إليها ولَيَرْجِعَنّ إلى دينهم أيضاً وقيل: هم القادحون في التحويل منهم جميعاً فيكون قوله تعالى: {مِنَ الناس} أي الكفرةِ لبيانِ أن ذلك القول المَحْكيِّ لم يصدُر عن كل فردٍ فردٍ من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر، إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونِهم من الناس مزيدُ فائدة، وتخصيصُ سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليمَ الباقين للتحويل وارتضاءَهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقاً أو بالعبارة المحكية.
{مَا ولاهم} أي أيُّ شيءٍ صرفهم، والاستفهامُ للإنكار والنفي {عَن قِبْلَتِهِمُ} القبلة فِعلة من المقابلة كالوِجْهة وهي الحالة التي يقابِلُ الشيءُ غيرَه عليها كالجِلسة للحالة التي يقع عليها الجلوسُ يقال: لا قِبلة له ولا دِبْرَةَ إذا لم يهتدِ لجهة أمرِه، غلَبت على الجهة التي يستقبلها الإنسانُ في الصلاة، والمراد بها هاهنا بيتُ المقدس، وإضافتُها إلى ضمير المسلمين ووصفُها بقوله تعالى: {التى كَانُواْ عَلَيْهَا} أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتِها واعتقادِ حقّيتِها لتأكيد الإنكار، فإن الاختصاصَ بالشيء والاستمرارَ عليه باعتقاد حقّيتِه مما ينافي الانصرافَ عنه فإن أريد بالقائلين اليهودُ فمدَارُ الإنكارِ كراهتُهم للتحويل عنها وزعمُهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمدارُه مجردُ القصدِ إلى الطعن في الدين والقدحِ في أحكامه، وإظهارُ أن كلاً من التوجه إليها والانصرافِ عنها واقعٌ بغير داعٍ إليه لا لكراهتهم الانصرافَ عنها أو التوجهَ إلى مكةَ وتعليقُ الإنكار بما يولّيهم عنها لا بما يوجههم إلى غيرها، مع تلازمهما في الوجود لما أن تركَ الدين القديمِ أبعدُ عن العقول وإنكارُ سببه أدخلُ لا للإيذان بأن المنكِرين هم اليهودُ بناءً على أن المنكرَ عندهم هو التحويلُ عن خصوصية بيتِ المقدس الذي هو القِبلة الحقَّةُ عندهم لا التوجهُ إلى خصوصية قبلةٍ أخرى أو هم المشركون بناءً على أن المنكرَ عندهم تركُ القبلة القديمةِ على وجه الطعن والقدحِ لا التوجهُ إلى الكعبة لأنه الحقُّ عندهم فإنه بمعزلٍ عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة، والإخبارُ بذلك قبل الوقوعِ مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أُخبر لتوطين النفوس وإعدادِ ما يُبَكّتُهم فإن مفاجأةَ المكروهِ على النفس أشقُّ وأشدُّ، والجوابُ العتيد لشغَب الخصمِ الألدِّ أردُّ، وقولُه عز وجل: {قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا أقول عند ذلك؟ فقيل: قل إلخ أي لله تعالى ناحيتا الأرضِ أي الجهاتُ كلُّها مُلْكاً وتصرفاً فلا اختصاصَ لناحيةٍ منها لذاتها بكونها قبلةً دون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئتِه {يَهْدِى مَن يَشَآء} أن يهديَه، مشيئةٌ تابعةٌ للحِكَم الخفية التي لا يعلمها إلا هو {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصِلٍ إلى سعادة الدين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبما تقتضيه مشيئتُه المقارِنة لحِكَم أبيّةٍ ومصالِحَ خفية.